بسم الله الرحمن الرحيم
هذه طائفة من الأدلة التي احتج بها جمهور الفقهاء على عدم وجوب صلاة الجماعة لا في المسجد ولا في غيره ، وهي عشرون دليلا مستمدة من السنة النبوية ، يتلوها بعض الاستدلالات، معضودة بأقوال الفقهاء حولها.
الأدلة على عدم وجوب صلاة الجماعة لا في المسجد ولا في غيره.
وهي عشرون دليلا مستمدة من السنة النبوية، يتلوها بعض الاستدلالات.
الدليل الأول
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفا).
قال بدر الدين العيني في البناية شرح الهداية ج٢ ص٣٢٦: (وقوله: "أفضل" يقتضي الاشتراك في الفضل وترجيح أحد الجانبين، وما لا يصح: لا فضيلة فيه، ولا يجوز أن يقال: إن أفضل قد تستعمل بمعنى الفاضل؛ لأن ذلك إنما يجوز على سبيل العلة عند الإطلاق، لا عند التفاضل بزيادة عدد، ويؤيد هذا ما جاء في لفظ: يزيد على صلاته وحده، وفي لفظ: يضعف، فإن ذلك يقتضي ثبوت صلاة زاد عليها وعدد تضاعف).
وقال ابن عبدالصمد (من علماء المالكية) في التنبيه ص٤٤٩: (مذهب فقهاء الأمصار أن صلاة الجماعة سنة، فتجزئ الفرد صلاته بلا خلاف عندهم، والدليل القاطععلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: صلاة الجماعة تفضل صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين درجة أو سبع وعشرين درجة على ما وقع في الحديث، فقد ضاعف صلاة الجماعة بالنسبة لصلاة الفذ).
وقال الإمام الرافعي في العزيز شرح الوجيز ج٢ ص١٤١ عن حديث سبع وعشرين درجة: (والاستدلال أنه لا يحسن أن يقال: الإتيان بالواجب أفضل من تركه، وتفضيل أحد الفعلين على الآخر يشعر بتجويزهما جميعا)
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ج٢ ص١٢٧ في معرض الردود على حديث التحريق: (ومنها وهو تاسعها ما ادعاه بعضهم أن فرضية الجماعة كانت في أول الإسلام لأجل سد باب التخلف عن الصلاة على المنافقين، ثم نُسخ، حكاه عياض... ويدل على النسخ الأحاديث الواردة في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ كما سيأتي بيانه في الباب الذي بعد هذا، لأن الأفضلية تقتضي الاشتراك في أصل الفضل، ومن لازم ذلك الجواز).
الدليل الثاني
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصليها ثم ينام).
قال محمود السبكي في شرح سنن أبي داود ج٤ ص٢٣٤: (وذهب الجمهور إلى أن الجماعة سنة مؤكدة، وهو مشهور مذهب المالكية والشافعية والحنفية، مستدلين بما رواه الشيخان عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "صلاة الرجل في الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة"، وفي رواية لهما أيضا عن أبي هريرة: "بخمس وعشرين درجة"، قالوا: وجه الدلالة فيه أن المفاضلة إنما تكون بين فاضلين جائزين، وإن الصلاتين قد اشتركتا في الفضيلة، ولو كانت الفرادى غير مجزئة لما كان لها فضيلة، وبما رواه الشيخان أيضا عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصليها ثم ينام").
وقال المناوي في فيض القدير ج٢ ص٥ شرحا لهذا الحديث: (والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام ولو في آخر الوقت أعظم أجرا من الذي يصليها في وقت الاختيار وحده، أو مع الإمام بغير انتظار).
الدليل الثالث
عن أبي بن كعب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل). أخرجه النسائي والبيهقي وأحمد والحاكم وأبو داود، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود.
قال العيني في عمدة القارئ شرح صحيح البخاري ج٥ ص١٦٣: (وأما استدلال من قال بأنها سنة أو فرض كفاية فيما تقدم في هذا الكتاب من الأحاديث التي فيها صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ، لأن صيغة أفعل تقتضي الاشتراك في الفضل وترجيح أحد الجانبين، وما لا يصح لا فضل فيه.. واستدلوا أيضا بما رواه الحاكم وصححه عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع رجلين أزكى من صلاته مع رجل").
الدليل الرابع
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة في جماعة تعدل خمسا وعشرين صلاة، فإذا صلاها في فلاة فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة)، رواه أبو داود والحاكم والبيهقي، وقال الزيلعي: (إسناده جيد)، وقال ابن مفلح في الفروع: (والحديث حسن).
قال أبو داود في سننه ج١ ص٣٧٩: (قال عبدالواحد بن زياد في الحديث: صلاة الرجل في الفلاة تضاعف على صلاته في الجماعة) وقال الشوكاني في نيل الأوطار ج٥ ص٤٢٢: (والأولى حمله على الانفرادلأن مرجع الضمير في حديث الباب من قوله "صلاها" إلى مطلق الصلاة، لا إلى المقيد بكونها جماعة)، وقال المناوي في فيض القدير ج٢ ص٢٤٥: (وظاهره أن الصلاة مع الانفرادفي الفلاة مع الإتيان بكمالاتها يضاعف ثوابها على ثواب صلاة الجماعة ضعفين).
قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب ج١ ص٢٩٤: (١٨ –الترغيب في الصلاة في الفلاة، قال الحافظ رحمه الله: وقد ذهب بعض العلماء إلى تفضيلها على الصلاة في الجماعة).
الدليل الخامس
روى الإمام أحمد في مسنده عن محجن الديلي رضي الله عنه، قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأقيمت الصلاة فجلست، فلما صلى قال لي: ألست بمسلم؟ قلت: بلى، قال: فما منعك أن تصلي مع الناس؟ قال: قلت: صليت في أهلي، قال: فصل مع الناس ولو كنت قد صليت في أهلك) ، وروى الإمام أحمد في مسنده عن حنظلة بن علي الأسلمي عن رجل من بني الديل، قال: (صليت الظهر في بيتي ثم خرجت بأباعر لي لأصدرها إلى الراعي، فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالناس الظهر، فمضيت فلم أصل معه، فلما أصدرت أباعري ورجعت ذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: ما منعك يا فلان أن تصلي معنا حين مررت بنا؟ قال: فقلت: يا رسول الله، إني قد كنت صليت في بيتي، قال: وإن). ورواه البغوي في معجم الصحابة ج١ ص٣٣١ عن حنظلة بن علي الأسلمي عن بسر بن محجن الدؤلي.
قال العيني في نخب الأفكار ج٦ ص٦ بعد أن أورده من خمس طرق، قال: (هذه خمس طرق صحاح).
قال أبو بكر بن العربي في القبس فشرح الموطأ ج١ ص٣١٢: (والظاهر أنه كان وحده).
الدليل السادس
روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه، (أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال: شر، كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله، وهو من أهل النار، فأتى الرجل فأخبره أنه قال كذا وكذا، فقال موسى بن أنس: فرجع المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكن من أهل الجنة)، وروى الإمام مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه: (أنه لما نزلت هذه الآية "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي"، جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، فقال: يا أبا عمرو، ما شأن ثابت؟ اشتكى؟ قال سعد: إنه لجاري، وما علمت له بشكوى، قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: أنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو من أهل الجنة).
فهو قد تخلف عن الجماعة أياما حتى افتقده النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينهه عن تخلفه عنها فضلا عن أن يوبّخه أو يزجره أو يتهدده بتحريق بيته، بل بشّره بأعظم بشارة وأكرم إشارة.
الدليل السابع
روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه ، قال: (كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأتي فيؤم قومه، فصلى ليلة مع النبي العشاء ثم أتى قومه فأمهم فافتتح بسورة البقرة، فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف، فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا والله، ولآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه، فأتى رسول الله فقال: يا رسول الله، إنا أصحاب نواضح نعمل بالنهار، وإن معاذا صلى معك العشاء ثم أتى فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رسول الله على معاذ فقال: يا معاذ، أفتان أنت؟ اقرأ بكذا واقرأ بكذا).
فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على معاذ تطويله، ولم ينكر على الرجل انصرافه وصلاته منفردا، ولو كانت الجماعة واجبة لأنكر ذلك عليه، ولذا أجاز الفقهاء انصراف المأموم عن الائتمام بالإمام، قال الرافعي في العزيز ج٢ ص١٩٨: (فإن الجماعة سنة، والتطوعات لا تلزم بالشروع).
الدليل الثامن
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتُقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار).
فالرسول صلى الله عليه وسلم سيأمر بإقامة الصلاة ثم سيخرج من المسجد دون أن يصلي مع الناس، وفي هذا دلالة واضحة بيّنة على أن الجماعة غير واجبة، قال الباجي في شرح الموطأ ج٢ ص١٩٢: ([هذا] دليل واضحعلى أن حضور الجماعة ليس بفرض على الأعيان، لأن النبي لا يخبر عن نفسه بما يكون فيه معصية). وقال أبو بكر بن العربي في القبس ج١ ص٣٠٤: (وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه في همّ النبي صلى الله عليه. وسلم بالحرق على المتخلفين عن الصلاة فهو أضعف الحجج لهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: فآمر رجلا يؤم الناس ثم أخالف إليهم، فقد ترك الجماعة، فإن قيل تركها لأخرى قلنا هذه دعوى في موضع الاحتمال من غير دليل).
الدليل التاسع
روى البخاري ومسلم قصة كعب بن مالك وتخلفه مع صاحبيه مرارة بن الربيع وهلال بن أمية رضي الله عنهم عن غزوة تبوك، وفيها قال كعب: (ونهى رسول الله صلى الله عليه. وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا.. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد .... حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله.. سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر، فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج).
فهذا مرارة بن الربيع وهلال بن أمية انقطعا عن الجماعة مدة خمسين يوما، وهذا كعب بن مالك نزلت توبته بعد أن صلى الفجر منفردا في سطح أحد بيوتهم.
الدليل العاشر
روى النسائي في سننه وابن خزيمة في صحيحه عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، قال: (شهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في سفر، فحضرت الصلاة، فاحتبس عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأقاموا الصلاة وقدموا ابن عوف فصلى بهم بعض الصلاة، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فصلى خلف ابن عوف ما بقي من الصلاة، فلما سلم ابن عوف قام النبي صلى الله عليه وسلم فقضى ما سُبق به). صححه الألباني وشعيب الأرنؤوط.
ولو لم يكن التخلف عن الجماعة عادة للنبي صلى الله عليه وسلم يفعلها في بعض الأحيان لما استجازوا أن يقيموا الصلاة قبل عودته.
الدليل الحادي عشر
روى الطبراني في الأوسط وغيره عن أبي بكرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل من نواحي المدينة يريد الصلاة، فوجد الناس قد صلوا، فمال إلى منزله، فجمع أهله فصلى). قال الألباني في تمام المنة: (سنده حسن).
ويسري على هذا الحديث ما يسرى على سابقه، فلو لم يكن التخلف عن الجماعة عادة للنبي صلى الله عليه وسلم يفعلها في بعض الأحيان لما استجاز الصحابة أن يقيموا الصلاة قبل قدومه.
الدليل الثاني عشر
روى الإمام الترمذي في سننه في باب:ما جاء في الرجل يصلي وحده ثم يدرك الجماعةعن يزيد بن الأسود العامري رضي الله عنه، قال: (شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، قال: فلما قضى صلاته وانحرف إذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا معه، فقال: علي بهما، فجيئ بهما ترعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله، إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة).
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي ج٢ ص٤ نقلا عن الشوكاني في نيل الأوطار ج٥ ص٣٠٨ دون عزو: (فيه تصريح بأن الثانية في الصلاة المعادة نافلة، وظاهره عدم الفرق بين أن تكون الأولى جماعة أو فرادى، لأن في ترك الاستفصال مقام الاحتمال ينزل منزل العموم في المقال).
وقال الأمير الصنعاني في سبل السلام ج١ ص٣٦٢: (وهذا الحديث وقع في مسجد الخيف في حجة الوداع، فدل على مشروعية الصلاة مع الإمام إذا وجده يصلي أو سيصلي بعد أن كان قد صلى جماعة أو فرادى، والأولى هي الفريضة والأخرى نافلة كما صرح به الحديث).
الدليل الثالث عشر
في نفس الحديث السابق جعل صلاتهما فرادى هي الفريضة وصلاتهما مع الجماعة هي النافلة، ولو كانت الجماعة واجبة لكانت الفريضة هي صلاتهما فيها، وكانت النافلة هي صلاتهما فرادى.
الدليل الرابع عشر
روى الإمام مالك في الموطأ ج٣ ص٢٨: (٣٦٣ – عن عفيف بن عمرو السهمي، عن رجل من بني أسد أنه سأل أبا أيوب الأنصاري، فقال: إني أصلي في بيتي ثم آتي المسجد فأجد الإمام يصلي، أفأصلي معه؟ فقال أبو أيوب: نعم، صل معه، فإن من صنع ذلك فإنه له سهم جمع أو مثل سهم جمع).
ورواه أبو داود في سننه في باب: فيمن صلى في منزله ثم أدرك الجماعة يصلي معهم، ويقصد به من صلى منفردا لأنه بوّب الباب الذي يليه : باب إذا صلى في جماعة ثم أدرك جماعة يعيد، فالفرق بين البابين أن الأول لمن صلى منفردا والثاني لمن صلى في جماعة.
وقال الخطابي في معالم السنن ج١ ص ١٦٥: (وفيه دليل على أن صلاته منفردا مجزية مع القدرة على صلاة الجماعة، وإن كان ترك الجماعة مكروها. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: قرأت على ابن وهب، أخبرني عمرو، عن بكير، أنه سمع عفيف بن عمرو بن المسيب يقول: حدثني رجل من أسد بن خزيمة، أنه سأل أبا أيوب الأنصاري، قال: يصلي أحدنا في منزله الصلاة، ثم يأتي المسجد وتقام الصلاة، فأصلي معهم؟ فقال أبو أيوب: سألنا عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ذلك له سهم جمع. قوله: سهم جمع يريد أنه سهم من الخير جمع له فيه حظان).
الدليل الخامس عشر
روى البخاري في صحيحه خبر قدوم وفد عبدالقيس على النبي صلى الله عليه وسلم، (فأمرهم بأركان الإسلام، ونهاهم عن الحنتم والدباء والنقير والمزفّت)، ولم يأمرهم بصلاة الجماعة.
وروى البيهقي في دلائل النبوة ج٥ ص٤١٣ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم إلى اليمن، وفيه تفصيل الشرائع من وضوء وصلاة وزكاة وديات، وجاء فيه: (ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم إلى المرافق، وأرجلهم إلى الكعبين، وأن يمسحوا رؤوسهم كما أمر الله، وأمروا بالصلاة لوقتها، وإتمام الركوع والخشوع، وأن يغلس بالصبح ويهجر بالهاجرة حتى تميل الشمس، وصلاة العصر والشمس في الأرض، والمغرب حين يقبل الليل، ولا تؤخر حتى تبدو النجوم في السماء، والعشاء أول الليل).
قال الشوكاني في نيل الأوطار ج٥ ص٤١٩: (ومن أدلتهم أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر جماعة من الوافدين عليه بالصلاة، ولم يأمرهم بفعلها في جماعة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز).
الدليل السادس عشر
روى الإمام مسلم في صحيحه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله).
وهذا الحديث نص في جواز صلاة الفذ للعشاء والفجر، لأن الحديث شبّه من صلى العشاء والفجر بمن قام الليل كله، ولو أن هذا القائم قام الليل كله وصلى صلاتي العشاء والفجر في جماعة لكان أجره ضعف أجر من قام الليل كله، وعندها يسقط التشبيه، ولهذا فإن المعنى هو ما ذكره القاضي عياض في شرحه على صحيح مسلم ج٢ ص٦٢٩: (ومعنى هذا: فكأنما قام نصف ليلة أو ليلة لم يصلّ فيها العتمة أو الصبح في جماعة، إذ لو صلى ذلك في جماعة لحصل له فضلها وفضل القيام ذلك عليه).
الدليل السابع عشر
نفس الحديث السابق، وفيه تشبيه ثواب صلاة الجماعة بثواب قيام الليل الذي هو نافلة، والمُشبَّه يكون مثل المُشبَّه به في الثواب أو أقل منه، ولو كانت صلاة الجماعة واجبة لأصبح ثواب الواجب أقل من ثواب المندوب من جنسه.
قال ابن النجار الحنبلي (وهو يقول بوجوب الجماعة) في معونة أولى النهى ج٢ ص٣١٨: (والثاني أنها سنة مؤكدة، وبه قال أبو حنيفة ومالك.. ولما روى عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله، رواه أحمد ومسلم، لأنه شبه فعلهما في جماعة بما ليس بواجب، والحكم في المشبه يكون كهو في المشبه به أو دونه في التأكيد).
الدليل الثامن عشر
روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل ثوما أو بصلاة فليعتزلنا، أو قال: فليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته). ولو كانت الجماعة واجبة لكان أكل الثوم والبصل محرما.
ولذلك أفتى الإمام إسحاق بن راهويه بتحريم أكل الثوم والبصل إلا لمن كانت به علة، فروى إسحاق الكوسج في مسائل الإمامين أحمد وإسحاق بن راهويه ج١ ص٢١٦: (٤٨٠ – قال إسحاق: وأما آكل الثوم فإنه لا يشهد الجماعة حتى يذهب ريحه منه، لأن أهل المسجد يتأذون بذلك، وكذلك الملك الموكل به، فإنْ أكَلَه من علة حادثة به فإن ذلك مباح، وإن لم يكن علة: لا يسعه أكلها لكي لا يترك الجماعة)، وبسبب هذه الفتوى عزا ابن رجب الحنبلي القول بوجوب الجماعة إلى إسحاق بن راهويه، قال ابن رجب الحنبلي في شرح صحيح البخاري ج٥ ص٤٤٧: (وممن ذهب إلى أن الجماعة للصلاة مع عدم العذر واجبة: الأوزاعي، والثوري، والفضيل بن عياض، وإسحاق، وداود).
وقال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام ج١ ص٣٠٢: (واللازم من ذلك [أي هذا الحديث] أحد أمرين: إما أن يكون أكل هذه الأمور مباحا وصلاة الجماعة غير واجبة على الأعيان، أو تكون الجماعة واجبة على الأعيان ويمتنع أكل هذه الأشياء إذا آذتإن حملنا النهي عن القربان على التحريم، وجمهور الأمة على إباحة أكلها)
وقال المرداوي بأن النهي غير خاص بجماعة المسجد بل يشمل الجماعة في غير المسجد كما يشمل المسجد الخالي، فقال في الإنصاف ج٢ ص٣٠٤: (قال في الفروع: وظاهره لو خلى المسجد من آدمي لتأذي الملائكة، قال: والمراد حضور الجماعة ولو لم تكن بمسجد، ولو في غير صلاة، قال: ولعله مراد قوله في الرعاية – وهو ظاهر الفصول – وتكره صلاة من أكل ذا رائحة كريهة مع بقائها، أراد دخول المسجد أو لا).
وقال ابن عبدالبر في الاستذكار ج١ ص٣٩٢: ("من أكل من هذه الشجرة" دليل على إباحة أكلها لا على تحريمها كما زعم بعض أهل الظاهر الذين يوجبون إتيان الجماعة فرضا ويمنعون من أكل الثوم والبصل ومن أكله لا يدخل المسجد لصلاة.. وفي ذلك دليل على أن شهود الجماعة ليس بفريضة، خلافا أيضا لأهل الظاهر الذين يوجبونها ويحرمون أكل الثوم من أجل شهودها).
الدليل التاسع عشر
روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعشاء).
فلو كانت الجماعة واجبة لكان وضع العشاء قبيل وقتها محرما مثلما يحرم الانشغال بالغداء إذا حضرت الجمعة.
قال ابن عبدالبر في الاستذكار ج٥ ص٣٢٦: (ومما يوضح لك سقوط فرض الجماعة وأنها سنة وفضيلةلا فريضة قوله صلى الله عليه وسلم: إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدؤوا بالعشاء)، وقال ابن رجب الحنبلي في شرح صحيح البخاري ج٤ ص١٠٥: (وقال أحمد: لا يقوم حتى يفرغ من جميع عشائه، وإن خاف أن تفوته الصلاة ما دام في وقت).
الدليل العشرون
روى الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافع الأخبثين)، وكره العلماء الصلاة لمن يدافع الأخبثين بالاتفاق.
قال الزبيدي في الجوهرة النيرة ج١ ص١٥٧: (والجماعة سنة مؤكدة.. وإذا ثبت أنها سنة مؤكدة فإنها تسقط في حال العذر مثل المطر والريح في الليلة المظلمة.. وكذا مدافعة الأخبثين أو أحدهما).
الدليل الحادي والعشرون
أن الأمر بالصلاة جاء في القرآن مطلقا دون تقييد أدائها في جماعة، في حين أن الأحاديث المحتج بها على وجوب الجماعة هي أحاديث آحاد، والزيادة على النص القرآني نسخ، ولا يصح نسخ المتواتر بحديث آحاد.
قال الشبلي في حاشيته على تبيين الحقائق ج١ ص١٣٣ عن حديث التحريق: (قلت: لو نُقل الحديث: "لا يشهدون الجماعة" [فإنه] لا يدل على الفريضة أيضا، لأنه من أخبار الآحاد، فلا يُزاد به على كتاب الله تعالىلأن الزيادة نسخ على ما عرف، وبمثله لا يثبت نسخ الكتاب، والكتاب يقتضي الجواز بدون الجماعة لما مر)، وقال المازري في شرح التلقين ج١-١ ص٧٠٤: (وإذا ثبت تأويل جميع ما تعلق به المخالف وسقطت الحجة به تعلقنا بأن الله تعالى أمر بالصلاة أمرا مطلقا لم يشترط في ذلك جماعة، فإذا قوبلنا بشيء من أخبار الآحاد قال أبو حنيفة: هي زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ، والنسخ لا يكون بأخبار الآحاد). وقال الزيلعي في تبين الحقائق ج١ ص١٣٢ بعد القول بسنية صلاة الجماعة لا وجوبها: (ولأن إطلاق قوله عز وجل أقيموا الصلاة يقتضي الجواز مطلقا، فلا تجوز الزيادة عليها بخبر الواحد لأنه نسخ على ما عرف في موضعه)، وقال البابرتي في العناية شرح الهداية ص١٨٩: (ولا صحة لقول من يجعلها فرض عين كأحمد وبعض أصحاب الشافعي، ويقول: لو صلى وحده لم يجز، ولا لقول من يقول إنها فرض كفاية كأكثر أصحاب الشافعي والكرخي والطحاوي، لأنهم يستدلون بآية مؤولة كقوله تعالى: واركعوا مع الراكعين، أو بخبر واحد وذلك لا يفيد الفرضية)، وقال العيني في البناية ج٢ ص٣٢٧ عن حديث التحريق: (ولئن سلمنا ذلك فالحديث خبر واحد، فلا يزاد به على إطلاق الكتاب)
الدليل الثاني والعشرون
لو كانت الجماعة واجبة لبطلت صلاة الفذ لأن الإسقاط المتعمد لأحد واجبات الصلاة مبطل لها بالاتفاق، وللخروج من هذا التناقض ذهب ابن عقيل وابن تيمية إلى بطلان صلاة المنفرد واعتبار الجماعة شرطَ صحة للصلاة كالجمعة تماما.
قال القاضي عبدالوهاب في المعونة ج١ ص٢٥٦: (صلاة الجماعة في غير الجمعة مندوب إليها.. خلافا لمن ذهب إلى وجوبها على الأعيان أو الكفايات، لأنه صلى الله عليه وسلم لما فاضل بينهما وبين الانفراد جعل حظها الفضيلة دون الآخر، ولأنها صلاة تُفعل جماعة وفرادى فلم تكن الجماعة من شرط صحتها كالنوافل).
وقال ابن قدامة في المغني ج٣ ص٧: (فصل: وليست الجماعة شرطا لصحة الصلاة، نص عليه أحمد، وخرج ابن عقيل وجها في اشتراطها قياسا على سائر واجبات الصلاة).
وقال شيخ الإسلام في الفتاوى ج٢٣ ص١٣٩: (وإذا ترك الجماعة من غير عذر، ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره: أحدهما: تصح صلاته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تفضل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده بخمس وعشرين درجة"، والثاني: لا تصح، لما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له"، ولقوله: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"، وقد قواه عبدالحق الإشبيلي، وأيضا: فإذا كانت واجبة، فمن ترك واجبا في الصلاة لم تصح صلاته)، والقول الثاني هو اختياره.
وقال أيضا في ص١٤٢: (ومن اهتدى لهذا الأصل: وهو أن نفس واجبات الصلاة تسقط بالعذر، فكذلك الواجبات في الجماعات ونحوها، فقد هدي لما جاءت به السنة من التوسط بين إهمال بعض واجبات الشريعة رأسا، كما قد يبتلى به بعضهم، وبين الإسراف في ذلك الواجب حتى يفضي إلى ترك غيره من الواجبات التي هي أوكد منه عند العجز عنه، وإن كان ذلك الأوكد مقدورا عليه، كما قد يبتلى به آخرون، فإنّ فِعْل المقدور عليه من ذلك دون المعجوز عنه هو الوسط بين الأمرين).
الدليل الثالث والعشرون
أن الجماعة غير واجبة في قضاء الصلوات بعد خروج الوقت، قال ابن مازة في المحيط البرهاني ج٢ ص٢١٠: (وإن صلى وحده جاز، لما بيّنا أن الجماعة سنة، ولهذا لا يجب الجماعة في القضاء،وترك السنة لا يمنع الجواز)، وقال ابن قدامة في المغني ج٢ ص٣٤٩: (يستحبقضاء الفوائت في جماعة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق فاته أربع صلوات، فقضاهن في جماعة)، وقال النووي في المجموع ج٤ ص٨٦: (وأما المقضية من المكتوبات فليست الجماعة فيها فرض عين ولا كفاية بلا خلاف).
الدليل الرابع والعشرون
أن عامة موجبي الجماعة من الحنابلة قالوا بأن الجماعة لا تُدرك إلا بركعة، ومع ذلك أجازوا للمسبوق أن يدخل مع الإمام في التشهد الأخير، وأجازوا له إتمام صلاته منفردا حتى لو سمع إقامة جماعة ثانية بعد انتهاء الجماعة الأولى، وكذلك لم يوجبوا على من ابتدأ الصلاة منفردا أن يقلبها نافلة إن أمكنه إداركها في جماعة، وقد استشكل ذلك الإمام المرداوي فقال في الإنصاف ج٢ ص٢٦: (إذا أحرم بفرض في وقته ثم قلبه نفلا ، فتارة يكون لغرض صحيح، وتارة يكون لغير ذلك، فإن كان لغير غرض صحيح فالصحيح من المذهب أنه يصح مع الكراهة .. وأما إذا قلبه نفلا لغرض صحيح مثل أن يحرم منفردا ثم يريد الصلاة في جماعة؛ فالصحيح من المذهب أنه يجوز، وتصح، وعليه الأصحاب، وأكثرهم جزم به، ولو صلى ثلاثة من أربعة أو ركعتين من المغرب، وعنه: لا تصح. ذكرها القاضي ومن بعده، لكن قال المجد في شرحه على المذهب: "إن كانت فجرا أتمها فريضة لأنه وقت نهي عن النفل"، فعلى المذهب: هل فعله أفضل أم تركه؟ فيه روايتان، وأطلقهما في الفروع وابن تميم، قلت: الصواب أن الأفضل فعله، ولو قيل بوجوبه – إذا قلنا بوجوب الجماعة – لكان أولى).