✍ حكم الترحم والاستغفار لموتى الكفار
أموات الكفار على حالين :
❖ الحالة الأولى : الميت الذي بلغته الدعوة ، ورأى الآيات والبراهين وفهمها وعقلها ، وقامت عليه الحجة ، فأعرض عنها واختار الكفر والجحود والعناد ، وهنا يكون المسلم بالخيار : فإن شاء استغفر له وترحم عليه ، وإن شاء امتنع عن ذلك .
❖ والحالة الثانية : الميت لم تبلغه الدعوة ، أو بلغته الدعوة ولم تقم عليه الحجة ، وهنا يكون الاستغفار له سنة مندوبة .
دليل الحالة الأولى : هو ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : لما توفي عبدالله بن أبي [بن سلول رأس المنافقين] جاء ابنه عبدالله بن عبدالله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه قميصه ، وأمره أن يكفنه فيه ، ثم قام يصلي عليه ، فأخذ عمر بن الخطاب بثوبه [أي بثوب النبي صلى الله عليه وسلم ] فقال : تصلي عليه وهو منافق ، وقد نهاك الله أن تستغفر لهم ؟ قال : إنما خيّرني الله ، فقال : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : سأزيده على السبعين . قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلينا معه ، ثم أنزل الله عليه : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون .
والآية بتمامها هي : (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين) .
ودليل الحالة الثانية : هو أن من لم تقم عليه الحجة في الدنيا كان من أهل الفترة في الآخرة ، وقد اختلف العلماء في شأنهم .
فقال عامة الأشاعرة بأن أهل الفترة جميعهم ناجون في الآخرة ، قال السيوطي : (وقد أطبقت أئمتنا الأشاعرة من أهل الكلام والأصول ، والشافعية من الفقهاء على أن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيا) .
وقال غيرهم بأنهم يُخْتَبرون في الآخرة ، فمن نجا منهم في الاختبار دخل الجنة ، ومن لم ينجُ دخل النار ، قال الشيخ ابن باز رحمه الله : (الصحيح من أقوال العلماء أن أهل الفترة يُمتحنون يوم القيامة ، ويؤمرون ، فإن أجابوا وأطاعوا دخلوا الجنة ، وإن عصوا دخلوا النار) .
فإن كان القول الأول هو الراجح : فقد تحققت المغفرة والرحمة لأهل الفترة ، وعندها يعود الدعاء لهم بالمغفرة والرحمة أجرا ومثوبة للداعي .
وإن كان القول الثاني هو الراجح ، فإن حالهم في الآخرة سيكون مثل حال الكفار الذين بلغتهم الدعوة في الحياة الدنيا ، والاستغفار لكفار الدنيا - إذا كان ذلك طلبا لهدايتهم - هو سنة من سنن المرسلين ، فقد روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : (كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) .
ولن ينجو أحد في الآخرة إلا برحمة الله ، قال تعالى : (وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته) ، وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم : (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) .
فإذا كان الاستغفار طلبا لنجاتهم مندوبا ، وكانت النجاة لا تتحقق لهم إلا برحمة الله ، فإن الدعاء لهم بالرحمة مندوب أيضا ، وما لا يتم المندوب إلا به فهو مندوب .
⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯
✍ رأي المحرمين ومناقشة أدلتهم
أفتى جمع كبير من الفقهاء قديما وحديثا بأن الاستغفار لأموات الكفار محرم ، واستدلوا على هذا القول بثلاثة أدلة :
الدليل الأول : الآيات الكثيرة المتظافرة التي تنص على أن مصير الكافرين إلى النار .
الدليل الثاني : آية : (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) .
الدليل الثالث : حديث : (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي) .
والجواب عن الدليل الأول : أن الكفر المقصود هو كفر الباطن الذي لا يعلمه إلا الله ، والذي به يجازي الله عباده في الآخرة ، وأما العباد في تعاملهم فيما بينهم في الحياة الدنيا فليس لهم إلا الظاهر ، ولا تلازم بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة ، فقد يكون المرء مسلما في الدنيا فيما يظهر عليه ولكنه هالك في الآخرة ، وربما يكون المرء كافرا في الدنيا فيما يظهر عليه ولكنه ناج في الآخرة ، والنصوص في هذا المعنى كثيرة جدا وسيرد شيء منها .
والجواب عن الدليل الثاني : أن الرسول صلى الله عليه وسلم فسّر الآية قولا وعملا وتقريرا ، فقد شرح لعمر بن الخطاب رضي الله عنه المعنى الصحيح للآية بأن المقصود ليس المنع من الاستغفار وإنما التخيير ، فهذا هو التفسير بالقول ، وصلى بنفسه صلى الله عليه وسلم على عبدالله بن أبي بن سلول ودعا له واستغفر له ، وهذا هو التفسير بالفعل ، وأقر الصحابة في صلاتهم على ابن أبي بن سلول مع أنه رأس النفاق والمنافقين ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله أولى بالتقديم من قول غيره وفعله ، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويُرد إلا هو صلوات الله وسلامه عليه .
والجواب عن الدليل الثالث : أنه قد ثبت تخيير الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بين الاستغفار لموتى الكفار وعدمه ، ولذلك استغفر لعمه أبي طالب الذي توفي قبل الهجرة بثلاث سنين ، كما استغفر لرأس النفاق عبدالله بن أبي بن سلول الذي توفي في أواخر السنة التاسعة من الهجرة ، وقد زار قبر أمه في عام الحديبية في السنة السادسة من الهجرة ، وذلك لا وجه للاستئذان من ربه تعالى إن كان الاستغفار المقصود من قبيل الاستغفار لأبي طالب وابن أبي سلول ، وإنما كان الاستغفار المقصود استغفارا تمحى به الخطايا وتُكتب لها به النجاة من النار بعد ثبوت أنها من أهلها ، فنهاه الله تعالى عن الاستغفار لها على هذا الوجه .
⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯
✍ ثبوت استغفار الأنبياء والملائكة للكفار
قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام : (واغفر لأبي إنه كان من الضالين) . ووالده كان يصنع الأصنام لقومه ومات على الكفر .
وقال تعالى على لسان إبراهيم : (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء . رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء . ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) ، وفي هذا دلالة على أن إبراهيم عليه السلام استمر بالاستغفار لأبيه إلى آخر حياته .
وقال تعالى : (والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم) .
وقال تعالى : (الذين يحلمون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا) .
فحملة العرش ومن حوله يستغفرون للذين آمنوا ، وعامة الملائكة يستغفرون لعامة من في الأرض ، وفيهم المسلمون والكفار .
وروى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال : (كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) ، وفي صحيح ابن حبان من حديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) ، وقال النووي : (وقد جرى لنبينا نحو ذلك يوم أحد) .
فالمشركون في أحد شجوا رأس النبي صلى الله عليه وسلم وكسروا رباعيته وأدموه ، وحاولوا قتله جاهدين ، فما زاد على أن استغفر لهم ، واستغفاره صلى الله عليه وسلم لم يكن خاصا بالأحياء منهم ، بل شمل الأحياء والأموات الذين قُتلوا أثناء القتال ، وقد نقل ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق أن قتلى المشركين في أحد كانوا اثنين وعشرين رجلا ، وفي دعائه صلى الله عليه وسلم دلالة على جواز الاستغفار للكفار أحياء وأمواتا .
⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯
✍ عدم جزم الأنبياء بمآل الكفار في الآخرة
ومع أن الأنبياء عليهم السلام مؤيدون بالوحي إلا أنهم لم يجزموا بمآل أحد في الآخرة .
قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام : (واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام . رب أنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) ، ففوّض أمرهم إلى سعة رحمة الله ومغفرته ، ولم يتألَّ عليهم بشيء .
قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره : (وهذا من شفقة الخليل عليه الصلاة والسلام ، حيث دعا للعاصين بالمغفرة والرحمة من الله ، والله تبارك وتعالى أرحم منه بعباده ، لا يعذب إلا من تمرد عليه) .
كما قال تعالى على لسان عيسى بن مريم في الآخرة : (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) ، ومع أن الموقف في الآخرة ، والمتحدث هو أحد أولي العزم من الرسل ، والمتحدَّث عنهم هم من اتخذوا مع الله آلهة أخرى ، إلا أنه عليه السلاملم يجزم بمصيرهم ، واحتمل لهم النجاة .
قال ابن كثير : (هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عز وجل ، فإنه الفعال لما يشاء ، الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون) .
وقال ابن عاشور : (فوّض أمرهم إلى الله ، فهو أعلم بما يجازيهم به ، لأن المقام مقام إمساك عن إبداء رغبة لشدة هول ذلك اليوم ، وغاية ما عرّض به عيسى أنه جوّز المغفرة لهم رحمة منه بهم) .
وأمر الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم بأن يواجه تكذيب المشركين له بتذكيرهم بسعة رحمة الله ! فقال تعالى : (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يُرد بأسه عن القوم المجرمين) ، فهؤلاء كذبوا الرسول وهم يرونه ويرون الآيات التي معه عيانا بيانا ، ومع ذلك يأتي الأمر الإلهي بأن يكون التصرف النبوي معهم هو تذكيرهم بأن الله (ذو رحمة واسعة) .
وروى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كُسرت رباعيته يوم أحد ، وشُج في رأسه ، فجعل يسلت الدم عنه ويقول : كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله ؟ فأنزل الله عز وجل : (ليس لك من الأمر شيء) .
والآية بتمامها : (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) ، فاحتمل لهم النجاة مع أنهم حاربوا الرسول صلى الله عليه وسلم وحاولوا قتله .
⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯
✍ الموت على الكفر لا ينفي المغفرة
والنصوص في ذلك كثيرة .
فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : (أسرف رجل على نفسه ، فلما حضره الموت أوصى بنيه ، فقال : إذا أنا مت فأحرقوني ، ثم اسحقوني ، ثم اذروني في الريح في البحر ، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذب به أحدا ، قال : ففعلوا ذلك به ، فقال الله للأرض : أدّي ما أخذت ، فإذا هو قائم ، فقال له : ما حملت على ما صنعت ؟ فقال : خشيتك يا رب ، فغفر له بذلك) . رواه البخاري ومسلم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (فهذا الرجل اعتقد أن الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك ، أو شك ، وأنه لا يبعثه ، وكل من هذين الاعتقادين كفر يكفر من قامت عليه الحجة ، لكنه كان يجهل ذلك ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله) .
ومع أنه هذا الرجل مات على الكفر إلا أن الله غفر له في الآخرة .
وقال ابن حجر العسقلاني في كتاب الإصابة في تمييز الصحابة في ترجمة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر أهل الفترة ، وأنهم يُختبرون في الآخرة ، فقال : (فترفع لهم نار [يقصد نار الاختبار] ، ويقال لهم : ادخلوها ، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ، ومن امتنع أُدْخِلها كرها [يقصد جهنم] . هذا معنى ما ورد من ذلك .. ونحن نرجو أن يدخل عبدالمطلب وآل بيته في جملة من يدخلها طائعا فينجو ، لكن ورد في أبي طالب ما يدفع ذلك ، وهو ما تقدم من آية براءة) .
ومن آل عبدالمطلب الذين تمنى ابن حجر العسقلاني لهم النجاة : أعمام النبي : الحارث والزبير والمقوم وضرار وقثم والغيداق والمغيرة وعبدالكعبة ، وعماته : عاتكة وبرة وأروى وأميمة وأم حكيم ، ويُضاف إليهم طالب بن أبي طالب وعتيبة بن أبي لهب . فكلهم ماتوا على الكفر ، ومع ذلك فإن الإمام ابن حجر العسقلاني يرجو لهم النجاة التي لن تتحقق لأحد إلا برحمة الله ، فقد جاء في الحديث : (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) .
وكذلك فإن النصوص عن المشائخ المعاصرين كثيرة في هذا المعنى ، ومنها :
قال الشيخ صالح الفوزان جوابا على سؤال عن تكفير اليهود والنصارى : (لا تخلط بين الحكم عليه بالكفر ، والحكم عليه بالنار بعد الموت . مصيره في الآخرة : هذا إلى الله ، أنت ما تدري) .
وقال الشيخ ناصر العقل : (أما الجزم في مصير الكافر المعين باسمه فلا يجوز إلا ما ثبت في حقه النص الشرعي كفرعون وأبي لهب مثلا … وقد يكون الكافر الذي يحكم عليه بعض الناس بأنه من أهل النار قد يكون من أهل الفترة الذين يُمتحنون في الآخرة) .
وقال الشيخ عبدالرحمن البراك : (القاعدة أنه لا يُشهد لمعين بأنه في الجنة أو في النار إلا من قام الدليل على حكمه في الآخرة … لأن الكافر المعين لا يُدرى على ماذا يموت ، أو لا يُدرى ما مات عليه ، فالله أعلم بأحوال عباده ، وكذلك لا يُعلم عن حاله بينه وبين ربه : هل هو ممن يعذره الله أو لا يعذره) .
⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯
✍ اشتراط بلوغ الحجة
والسبب الذي يجعل العلماء يتوقفون في مآل الكافر في الآخرة هو أن الخلود في النار يتطلب تحقق الشروط وانتفاء الموانع ، وتحقق الشروط يقتضي بلوغ الدعوة إليه على وجه تقوم به الحجة ، فإن لم تصله الدعوة على وجه تقوم به الحجة فإن أمره إلى الله .
وقد قال تعالى : (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي) ، فإن كان صفوة الخلق صلى الله عليه وسلم بحاجة للبينات ، فكيف بمن هم دونه ؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير آية (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) : (المراد أن يسمعه سمعا يتمكن مع من فهم معناه ، إذ المقصود لا يقوم بمجرد سماع لفظ لا يتمكن معه من فهم المعنى ، فلو كان غير عربي لوجب أن يترجم له ما تقوم به عليه الحجة ، ولو كان عربيا وفي القرآن ألفاظ غريبة ليست من لغته وجب أن نبين له معناها ، ولو سمع اللفظ كما يسمعه كثير من الناس ولم يفقه المعنى وطلب منا أن نفسره له ونبين له معناه فعلينا ذلك ، وإن سألنا عن سؤال يقدح في القرآن أجبناه عنه ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أورد عليه بعض المشركين أو أهل الكتاب أو المسلمين سؤالا يوردونه على القرآن ، فإنه كان يجيبهم عنه) .
وقال ابن القيم رحمه الله : (والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله ، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل ، فهذا مقطوع به في جملة الخلق ، وأما كون زيد بعينه وعمرو قامت عليه الحجة أم لا ؟ فذلك ما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه) .
وقال الألباني رحمه الله : (لو أن قوما أو ناسا بلغتهم دعوة الإسلام محرفة مغيرة مبدلة ، وبخاصة ما كان منها متعلقا في أصولها وفي عقيدتها ، فهؤلاء الناس أنا أول من يقول إنهم لم تبلغهم الدعوة ، لأن المقصود ببلوغ الدعوة على صفائها وبياضها ونقائها ، أما والفرض الآن أنها بلغتهم مغيرة مبدلة ، فهؤلاء لم تبلغهم الدعوة ، وبالتالي لم تقم حجة الله تبارك وتعالى عليهم) .
وقال الشيخ ابن عثيمين : (وأما الذين في أوروبا وغيرها ممن لم يصل إليهم الإسلام إلا مشوّها ، فهل يعذبون ؟ فنقول في هؤلاء : هم الآن يدينون بالكفر ، ويرون أنهم طرف نقيض مع الإسلام ، فنحن نحكم عليهم بأنهم كفار في الظاهر ، فإذا لم تبلغهم الدعوة على وجه تقوم به الحجة ، فأمرهم إلى الله يوم القيامة) .
وقال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في كتابه فيصل التفرقة : (أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى ، أعني : الذين هم في أقاصي الروم والترك ولم تبلغهم الدعوة ، فإنهم ثلاثة أصناف : صنف لم يبلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم أصلا فهم معذورون ، وصنف بلغهم اسمه ونعته وما ظهر عليه من المعجزات ، وهم المجاورون لبلاد الإسلام والمخالطون لهم ، وهم الكفار الملحدون ، وصنف ثالث بين الدرجتين ، بلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يبلغهم نعته وصفته ، بل سمعوا أيضا منذ الصبا أن كذابا ملبسا اسمه محمد ادعى النبوة .. فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول ، فإن أولئك مع أنهم لم يسمعوا اسمه لم يسمعوا ضد أوصافه ، وهؤلاء سمعوا ضد أوصافه ، وهذا لا يحرك داعية النظر في الطلب…. وأما من سائر الأمم : فمن كذبه بعد ما قرع سمعه على التواتر خروجه وصفته ومعجزاته الخارقة للعادة .. فأعرض عنه وتولى ولم ينظر فيه ولم يتأمل ولم يبادر إلى التصديق ، فهذا هو الجاحد الكاذب ، وهو الكافر ، ولا يدخل في هذا أكثر الروم والترك الذين بعدت بلادهم عن بلاد الإسلام ، بل أقول : من قرع سمعه هذا فلا بد أن تنبعث من داعيه الطلب ليستبين حقيقة الأمر إن كان من أهل الدين ولم يكن من الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، فإن لم تنبعث هذه الداعية فذلك لركونه إلى الدنيا وخلوه عن الخوف وخطر أمر الدين ، وذلك كفر ، وإن انبعثت الداعية ، فقصر في الطلب فهو أيضا كافر ، بل ذو الإيمان بالله واليوم والآخر من أهل كل ملة لا يمكنه أن يفتر عن الطلب بعد ظهور المخايل بالأسباب الخارقة للعادة ، فإن اشتغل بالنظر والطلب ولم يقصّر فأدركه الموت قبل تمام التحقيق فهو أيضا مغفور له ، ثم له الرحمة الواسعة ، فاستوسع رحمة الله تعالى ، ولا تزن الأمور الإلهية بالموازين المختصرة الرسمية) .. إلى أن قال : (فكما أن أكثر أهل الدنيا في نعمة وسلامة .. فكذلك المخلدون في النار بالإضافة إلى الناجين والمخرجين منها في الآخرة نادر ، فإن صفة الرحمة لا تتغير باختلاف أحوالنا ، وإنما الدنيا والآخرة عبارتان عن اختلاف أحوالك) .
⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯
✍ القول في أهل الفترة
ومن لم تقم عليه الحجة في الدنيا فهو من أهل الفترة في الآخرة .
قال الألوسي عن أهل الفترة : (هم الأمم الكائنة بين أزمنة الرسل … ثم صار يطلق عند كثير من العلماء على كل من لم تبلغهم الدعوة ، بما فيهم أطفال المشركين) .
وقال السيوطي : (وقد أطبقت أئمتنا الأشاعرة من أهل الكلام والأصول ، والشافعية من الفقهاء على أن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيا) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : (ومن لم تقم عليه الحجة في الدنيا بالرسالة كالأطفال والمجانين وأهل الفترات فهؤلاء فيهم أقوال أظهرها ما جاءت به الآثار أنهم يمتحنون يوم القيامة) .
وقال الشيخ ابن باز : (الصحيح من أقوال العلماء أن أهل الفترة يمتحنون يوم القيامة ، ويؤمرون ، فإن أجابوا وأطاعوا دخلوا الجنة ، وإن عصوا دخلوا النار) .
قال الشيخ الألباني : (إنني أتعجب من بعض العلماء الذين يقولون بأنه لا يوجد اليوم أهل فترة ، فأنا أقول : أهل الفترة موجودون خاصة في بلاد الكفر أوروبا وأمريكا وإلى آخره ، بل أنا أقول قولة ما أظن أحدا يقولها اليوم : أنا أقول : أهل الفترة موجودون بين ظهرانينا ، وأعني هؤلاء الجهلة الذين يجدون من يؤيد ضلالهم : استغاثتهم بغير الله ، والنذر لغير الله ، والذبح لغير الله ، ويسمون هذه الشركيات كلها بالتوسل .. فهؤلاء من أين لنا أن نكفرهم وهم لم تبلغهم دعوة الكتاب والسنة) .
وبما أنهم يُخْتِبرون في الآخرة فإن حالهم فيها مطابق لحال من بلغتهم الدعوة في الدنيا ، فمنهم من يستجيب ومنهم من يُعرِض ، وبالتالي يصبح حكم الاستغفار والترحم للكفار من أهل الفترة الذين يُختبرون في الآخرة مطابقا لحكم الاستغفار والترحم للكافر الحي في الدنيا .
⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯
✍ جواز الاستغفار والترحم على الكفار الأحياء
والأدلة والأقوال في جوازه متظافرة .
منها ما رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال : (كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) .
وفي صحيح ابن حبان من حديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) .
ومنها استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لمشركي مكة يوم الفتح ، عندما سألهم : (ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم ، فقال : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم) . رواه النسائي .
قال الإمام الطحاوي : (ومما يدل على جواز الاستغفار للمشرك ما دام حيا قوله صلى الله عليه وسلم : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) .
وقال القرطبي : (وقد قال كثير من العلماء : لا بأس أن يدعو الرجل لأبويه الكافرين ويستغفر لهما ما داما حيين) .
وقال الإمام الشاطبي : (لم يُمنع عن الاستغفار لمن كان حيا منهم ، وقال عليه الصلاة والسلام : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، وعلى الجملة فالدعاء للغير مما عُلِم من دين الأمة ضرورةً) .
وقال بدر الدين العيني في شرح حديث (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) : (معناه : اهدهم إلى الإسلام الذي تصح معه المغفرة) .
وقال الآلوسي رحمه الله : (والتحقيق في هذه المسألة أن الاستغفار للكافر الحي المجهول العاقبة - بمعنى طلب هدايته للإيمان - مما لا محذور فيه عقلا ونقلا) .
فحال أهل الفترة في الآخرة مطابق لحال من بلغتهم الدعوة في الدنيا .
فإذا جاز الاستغفار لكفار الدنيا بمعنى طلب هدايتهم للحق وللنجاة ، جاز الاستغفار لأهل الفترة بمعنى طلب هدايتهم للحق وللنجاة .
وإذا جاز طلب هدايتهم ونجاتهم جاز الدعاء لهم بالرحمة لأن الرحمة شرط من شروط النجاة .
⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯
✍ العامي ليس مؤهلا لفهم المسائل الفرعية فكيف يفهم المسائل الأصلية ؟!
وهذا القول مشهور جدا ، وهو يؤكد أن أكثر الكفار اليوم هم أهل فترة .
فقد أطنب الفقهاء في وضع شروط كثيرة تعجيزية يجب تحققها في الشخص كي مؤهلا للاجتهاد ، ومن أقوالهم :
قال الإمام الشافعي في الأم : (ولا ينبغي للمفتي أن يفتي حتى يجمع أن يكون عالما علم الكتاب ، وعلم ناسخه ومنسوخه ، وخاصه وعامة ، وفرضه وأدبه ، وعالما بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقاويل أهل العلم قديما وحديثا ، وعالما بلسان العرب ، عاقلا يميز بين المشتبه ، ويعقل القياس ، فإن عدم واحدة من هذه الخصال لم يحل له أن يقول قياسا) .
وذكر السيوطي في كتابه دليل الاستناد شروطا كثيرة جدا للاجتهاد ، منها : أن يكون عالما بأحوال الراوي والمروي ، والحديث المقبول والمردود ، ومعرفة متصل الأحاديث ، ومرسلها ، ومعضلها ، ومنقطعها ، ومدلسها ، ومدرجها ، وما اختلف في وصله وإرساله ، وفي رفعه ووقفه ، ومعرفة أصحها وصحيحها ، وحسنها لذاته ، وحسنها لغيره ، وضعيفها المتماسك ، وواهيها ، ومنكرها ، ومتروكها ، وشاذها ، ومعللها ، وما اختُلف في صحته وحسنه وضعفه ، ومتواترها ، ومشهورها ، وأحاديها ، وغريبها ، وفردها المطلق ، وفردها النسبي ، وما له متابع من لفظه ، وما له شاهد من معناه ، وأن يكون عالما بالقرآن ، وبأسباب النزول ، وعارفا بما ورد من الأخبار في معاني الآيات ، وبآيات الأحكام ، وبأسرار القرآن وبلاغته ومجازاته وأساليبه ، وأن يكون عالما بأصول الفقه ، عارفا بلغة العرب ، ويجب عليه الرجوع للكتب المؤلفة في ذلك كصحاح الجوهري بتكملته للصاغاني ، والعباب ، والقاموس ، والكتب المؤلفة في غريب القرآن وغريب الحديث ، وأن يكون عالما بالنحو والصرف والبلاغة ، عالما بالحساب ، وعارفا بمسائل الإجماع منذ عصر الصحابة إلى زمانه !
وقال الشيخ صالح الفوزان :(ولما كان منصب الاجتهاد بهذه الخطورة فقد وضع العلماء شروطا لمن يتولى هذا المنصب .. وهذه الشروط كما يلي : إحاطة المجتهد بمدارك الأحكام المثمرة لها من كتاب وسنة وإجماع واستصحاب وقياس ، ومعرفة الراجح منها عند ظهور التعارض ، وتقديم ما يجب تقديمه كتقديم النص على القياس ، وعلمه بالناسخ والمنسوخ ، ومواضع الإجماع والاختلاف ، ومعرفته بالعام والخاص والمطلق والمقيد والنص والظاهر والمؤول والمحتمل والمبين والمنطوق والمفهوم والمحكم والمتشابه ، ومعرفته بما يصلح للاحتجاج به من الأحاديث من أنواع الصحيح والحسن ، والتمييز بين ذلك وبين الضعيف الذي لا يحتج به ، وذلك بمعرفته بأسباب الضعيف المعروفة في علم الحديث والأصول ، وأن يكون على علم بالنحو واللغة العربية يمكّنه من فهم الكلام) .
وكرر الفقهاء قديما وحديثا أن من لم تنطبق عليه هذه الشروط فهو عامي غير مؤهل للنظر والاجتهاد .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (وكذلك المسائل الفرعية … القدرة على معرفتها من الأدلة المفصلة تتعذر أو تتعسر على أكثر العامة) .
وقال الإمام الذهبي : (الفقيه المبتدئ والعامي الذي يحفظ القرآن أو كثيرا منه لا يسوغ له الاجتهاد أبدا ، فكيف يجتهد ؟ وما الذي يقول ؟ وعلام يبني ؟ وكيف يطير ولما يريش؟) .
وقال الشيخ الألباني : (التقليد لا بد منه لمن لا علم عنده) .
وسئل الشيخ عبدالكريم الخضير : هل للعامي أو الجاهل أن يجتهد ويبحث ويقرأ في مسألة ليصل إلى القول الصحيح ؟ فأجاب : (كيف يجتهد العامي وليست عنده الأهلية ؟ فالعامي جاهل ليست عنده أهلية ، وفي حكمه المبتدئ الذي لم يتأهل لمعرفة النصوص والتعامل معها على الجادة التي عُرفت عند أهل العلم ، فمثل هذا لا يجوز له أن يتطاول على النصوص ويستنبط منها أو يبني عليها أحكاما ويرد بها أقوال أهل العلم ، لأنه ليست لديه الأهلية ، وإنما فرضه سؤال أهل العلم) .
وقال الشيخ محمد المنجد : (القسم الثالث : العوام ، وهم من ليس عندهم حصيلة من العلم الشرعي تؤهلهم للترجيح بين أقوال العلماء ، فهؤلاء لا يمكنهم استنباط الأحكام من نصوص الكتاب والسنة ، ولا يستطيعون الترجيح بين أقوال العلماء ، ولذلك فالواجب عليهم سؤال العلماء واتباع أقوالهم … ويلزمهم أن يقلدوا علماء عصرهم ، بل علماء بلدهم ، حتى لا يُفتح لهم الباب للاختيار من أقوال العلماء ما شاؤوا وهم ليس عندهم الأهلية للترجيح) .
ولو بحثت في الكفار اليوم فلن تجد فيهم من اجتمعت فيه شروط الاجتهاد التي اشترطها الفقهاء ، ولا حتى عُشرها ، فكيف يكونون مؤهلين للنظر في أصول الدين وهم غير مؤهلين للنظر في فروعه ؟!
إذا كان العامي العربي غير مؤهل لاستنباط المسائل الفرعية من كتب الفروع المكتوبة بلغته ؛
فكيف يكون العامي الأعجمي مؤهلا لاستنباط المسائل الأصلية من كتب الأصول المكتوبة بغير لغته ؟!
وكيف يفهم العامي الأعجمي القرآن إذا كان العامي العربي غير مؤهل لفهم آية ؟!
وكيف تقوم الحجة على عوام الكفار في العقائد والأصول إذا كانوا غير مؤهلين للنظر في أحكام المسح على الخفين أو حكم استلام الركن اليماني أثناء الطواف ؟!
وكيف سيستطيع العامي فهم أركان الإسلام من صلاة وزكاة وصيام وحج وهو غير مؤهل للنظر في حكم تحريك السبابة في التشهد ؟!
إذا كان العامي غير مؤهل للترجيح بين أقوال العلماء في المسائل الفرعية الصغرى ؛ فكيف يصبح مؤهلا للترجيح بين أقوال العلماء في المسائل الأصلية الكبرى ؟
أيكون عاجزا عن الصغير قادرا على الكبير ؟
وأما الصواب في هذه المسألة فهو أن الاجتهاد واجب على العامي في الأصول والفروع ، فإن اهتدى للصواب في الأصول أو الفروع فقد تحقق المراد ، وإن لم يهتد للصواب فإن الله لا يكلّف نفسا إلا وسعها .
قال الإمام ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام : (فالتقليد كله حرام في جميع الشرائع أولها عن آخرها ، من التوحيد والنبوة والقدر والإيمان والوعيد والإمام والمفاضلة وجميع العبادات والأحكام) ، وقال : (فالتقليد حرام على العبد [الرقيق] المجلوب من بلده ، والعامي ، والعذراء المخدرة ، والراعي في شعف الجبال ، كما هو حرام على العالم المتبحر ولا فرق ، والاجتهاد في طلب حكم الله تعالى ورسوله عليه السلام في كل ما خص المرء من دينه لازم لكل من ذكرنا كلزومه للعالم المتبحر ولا فرق ، فمن قلد من كل من ذكرنا فقد عصى الله عز وجل وأثم) .
وقال الشوكاني في إرشاد الفحول : (وقد ذكرت نصوص الأئمة الأربعة المصرحة بالنهي عن التقليد … وبهذا تعلم أن المنع من التقليد - إن لم يكن إجماعا - فهو مذهب الجمهور) ، ونسب الاجتهاد وترك التقليد إلى سلف الأمة ، ثم قال : (ومن لم يسعه ما وسع أهل هذه القرون الثلاثة الذين هم خير قرون هذه الأمة على الإطلاق فلا وسّع الله عليه) .
⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯
✍ عدم الشهادة بالنار على معين
فمن أصول أهل السنة والجماعة ألا يشهدوا لمعيّن لا بجنة ولا بنار إلا من ورد فيه الدليل بحقه ، وعدم الشهادة للكافر الميت بالنار دليل على عدم القطع بمآله في الآخرة ، مما يقتضي قيام الاحتمال على دخوله الجنة إذا تغمده الله برحمته .
والنصوص في عدم الشهادة لكافر معيَّنٍ بالنار كثيرة عن المشائخ المعاصرين .
قال الشيخ ابن باز رحمه الله : (لا تجوز الشهادة لمعين بجنة أو نار أو نحو ذلك إلا لمن شهد الله له بذلك في كتابه الكريم ، أو شهد له رسوله عليه الصلاة والسلام ، وهذا هو الذي ذكره أهل العلم من أهل السنة) .
وقال الشيخ ابن عثيمين : (لو قال قائل : مات رجل من الروس من الملحدين منهم ، مات رجل من الأمريكان من الملحدين منهم ، من اليهود من الملحدين ، [هل] ألعنُه وأشهدُ له بالنار . نقول : ما يمكن . نحن نقول : من مات على هذا فهو من أهل النار ، من مات على هذا لعناه ، أما الشخص المعين فلا ، ولهذا كان من عقيدة أهل السنة والجماعة قالوا : لا نشهد لأحد بالجنة أو بالنار إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكننا نرجو للمحسن ونخاف على المسيء) .
وقال الشيخ ابن عثيمين أيضا : (وأما الذين في أوروبا وغيرها ممن لم يصل إليهم الإسلام إلا مشوّها ، فهل يعذبون ؟ فنقول في هؤلاء : هم الآن يدينون بالكفر ، ويرون أنهم طرف نقيض مع الإسلام ، فنحن نحكم عليهم بأنهم كفار في الظاهر ، فإذا لم تبلغهم الدعوة على وجه تقوم به الحجة ، فأمرهم إلى الله يوم القيامة) .
وقال الشيخ ابن عثيمين أيضا : (وإذا رأينا رجلا كافرا ملحدا مسلطا على المسلمين ، يمزّق كتابه الله ويدوسه برجليه ويستهزئ بالله ورسوله ، فلا نقول : هذا من أهل النار ، بل نقول : من فعل هذا فهو من أهل النار ، بلا تعيين) .
وقال الشيخ ابن جبرين رحمه الله : (أما الشهادة بالنار لمعين : فلا تجوز أيضا إلا لمن ورد فيه النص ، فقد ورد النص مثلا في أبي لهب : سيصلى نارا ذات لهب ، وكذلك في أبي جهل) .
وقال الشيخ صالح الفوزان جوابا على سؤال عن تكفير اليهود والنصارى : (يُكفّرون بالعموم والتعيين ، كل يهودي وكل نصراني فهو كافر ، لكن لا تخلط بين الحكم عليه بالكفر والحكم عليه بالنار بعد الموت . مصيره في الآخرة : هذا إلى الله ، أنت ما تدري) .
قال الشيخ عبدالرحمن البراك : (القاعدة أنه لا يُشهد لمعين بأنه في الجنة أو في النار إلا من قام الدليل على حكمه في الآخرة … لأن الكافر المعين لا يُدرى على ماذا يموت ، أو لا يُدرى ما مات عليه ، فالله أعلم بأحوال عباده ، وكذلك لا يُعلم عن حاله بينه وبين ربه : هل هو ممن يعذره الله أو لا يعذره) .
وقال الشيخ ناصر العقل : (أما الجزم في مصير الكافر المعين باسمه فلا يجوز إلا ما ثبت في حقه النص الشرعي كفرعون وأبي لهب مثلا ، لا شكّا في مصير الكافر الخالص ، لكن لا أحد يجزم على أية حال مات في آخر لحظة ، فإن ذلك لا يعلمه إلا علام الغيوب ، وقد يكون الكافر الذي يحكم عليه بعض الناس بأنه من أهل النار قد يكون من أهل الفترة الذين يُمتحنون في الآخرة) .
⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯⚯
✍ سعة رحمة الله
وأختم هذا المبحث بسرد بعض الآيات الدالة على سعة رحمة الله .
فقد قال الله تعالى : (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن لربك لشديد العقاب) .
وقال تعالى : (ولله ما في السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم) .
وقال تعالى : (ورحمتي وسعت كل شيء) .
وقال تعالى : (وربك الغني ذو الرحمة) .
وفي الحديث : (جعل الله الرحمة مائة جزء ، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا ، وأنزل في الأرض جزءا واحدا ، فمن ذلك الجزء يتراحم الناس حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) . رواه البخاري .
وعن عمر بن الخطاب أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي ، فإذا امرأة من السبي تبتغي ، إذ وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار ؟ قلنا : لا والله ، وهي تقدر على أن لا تطرحه ، فقال : لله أرحم بعباده من هذه بولدها) . رواه البخاري ومسلم .
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في مجموع الفتاوى: وقد قال تعالى: ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ـ في الدعاء، ومن الاعتداء في الدعاء: أن يسأل العبد ما لم يكن الرب ليفعله، مثل: أن يسأله منازل الأنبياء وليس منهم، #أو المغفرة للمشركين ونحو ذلك. انتهى.
ردحذف